للإنسان قوتان : قوة علمية نظرية ، وقوة عملية إرادية . وسعادته التامة موقوفة على استكمال قوتيه العلمية والإرادية . واستكمال القوة العلمية إنما يكون بمعرفة فاطره وبارئه ، ومعرفة اسمائه وصفاته ، ومعرفة الطريق التي توصل إليه ، ومعرفة آفاتها ، ومعرفة نفسه ، ومعرفة عيوبها . فبهذه المعارف الخمس يحصل قوته العلمية . وأعلم الناس أعرفهم بها ، وأفقهم فيها . واستكمال القوة العلمية الإرادية لا يحصل إلا بمرعاة حقوقه سبحانه على العبد ، والقيام بها إخلاصا وصدقا ، ونصحا وإحسانا ، ومتابعة وشهودا لمنته عليه ، وتقصيره هو في أداء حقه . فهو مستح من مواجهته بتلك الخدمة ، لعلمه أنها دون ما يستحقه عليه ودون دون ذلك . وأنه لا سبيل له إلى استكمال هاتين القوتين إلا بمعونته ، فهو مضطر إلى يهديه الصراط المستقيم ، الذي هدى إليه أولياءه وخاصته ، وأن يجنبه الخروج عن ذلك الصراط ، إما بفساد في قوته العلمية ، فيقع في الضلال وإما في قوته العملية فيوجب له الغضب .
فكمال الإنسان وسعادته ، لا تتم إلا بمجموع هذه الأمور ، وقد تضمنتها سورة الفاتحة , وانتظمتها أكمل انتظام . فإن قوله : " الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين " الأصل الأول ، وهو معرفة الرب تعالى , ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله .
والأسماء المذكورة في هذه السورة هي أصول الأسماء الحسنى ، وهي اسم الله و الرب والرحمن فاسم الله متضمن لصفات الألوهية , واسم الرب متضمن لصفات الربوبية , واسم الرحمن متضمن لصفات الإحسان والجود والبر . ومعاني أسمائه تدور على هذا . وقوله : " إياك نعبد وإياك نستعين " ، يتضمن معرفة الطريق الموصلة إليه ، وأنها ليست إلا عبادته وحده بما يحبه ويرضاه ، واستعانته على عبادته . وقوله : " اهدنا الصراط المستقيم " ، يتضمن بيان أن العبد لا سبيل له إلى سعادته إلا باستقامته عل الصراط المسقيم ، وأنه لا سبيل له إلى الاستقامة إلا بهداية ربه له ، كما لاسبيل له إلى عبادته إلا بمعونته , فلا سبيل له إلى الاستقامة على الصراط إلا بهدايته .
وقوله : " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " ، يتضمن بيان طرفي الانحراف عن الصراط المستقيم ، وأن الانحراف إلى أحد الطرفين انحراف إلى الضلال , الذي هو فساد العلم والاعتقاد ، والانحراف إلى الطرف الآخر انحراف إلى الغضب ، الذي سببه فساد القصد والعمل .
فأول السورة رحمة ، وأوسطها هداية ، وآخرها نعمة . وحظ العبد من النعمة على قدر حظه من من الهداية ، وحظه منها على قدر حظه من الرحمة , فعاد الأمر كله إلى نعمته ورحمته . والنعمة والرحمة من لوازم ربوبيته ، فلا يكون إلا رحيما منعما ، وذلك من موجبات إلهيته , فهو الاله الحق , وإن جحده الجاحدون وعدل به المشركون . فمن تحقق بمعاني الفاتحة علما ومعرفة , وعملا وحالا ، فقد فاز من كماله بأوفر نصيب ، وصارت عبوديته عبودية الخاصة الذين ارتفعت درجتهم عن عوام المتعبدين . والله المستعان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق